من نصائح المحدث الشيخ عبد الله الهرري

الشمس تشرق من جديد

أم محمّد… إحدى الأمهات التي ودّعت أولادها الواحد تلو الآخر… منهم من سافر للعمل في الخارج… ومنهم من ترك البلد للدراسة في بعض الدول الغربية… حتى بناتها تزوجن وتركن البلد إلى إحدى الدول العربية… لم يبق معها أحد في المنزل… غادرها الجميع وكان الهاتف الوسيلة الوحيدة للتواصل معهم…

كانت تسافر إلى أحدهم أحيانًا فيفرح قلبها برؤية أحفادها… لكن أوقات الفرح سرعان ما تنتهي وتعود إلى وحدتها من جديد…  كانت زيارة أبنائها وبناتها لها قليلة جدًّا… شغلتهم أعمالهم عنها… حتّى إن بعضهم لم يأت لرؤيتها إلا مرة أو مرتين خلال كل مدة سفره… كانت تذهب أحيانًا لزيارة إخوتها تحكي لهم عن غربة أولادها وشوقها لرؤيتهم… لكن كان الليل دائمًا رفيقها الوحيد… تأوي إلى فراشها تفكر بأطفال صغار عاشت معهم كل طفولتهم ولكنهم الآن… وبعد أن صاروا كبارًا سافروا… وهي تعيش على أمل أن تجتمع بهم جميعًا… على مائدة واحدة.. تحضّر لهم الطعام وتفرح بهم وبأطفالهم…

جميل أن يكون للإنسان حلمٌ طيبٌ يسعى للحصول عليه… لكن بعض الأحلام تبقى في الخيال ولا تلامس الواقع… يحلم بحصول أمر يظن أن سعادته تكمن في الحصول عليه… وإذ بالأيام تباعد بينه وبين أسباب سعادته المأمولة… فيعيش الألم بدل الفرح…. والأزمة بدل الفرج…

وليد… أحد أبناء أم محمّد… أصيب بمرض أتعب جسده وفكره… عاد إلى بلده ليتعالج وترك أسرته في الغربة… فرحت أمه بوجوده معها… لكن أتعب فكرها مرض ولدها الحبيب… كانت تذهب معه في زيارته للطبيب للاطمئنان عليه… تكرّرت الزيارات… الوضع لا يطمئن… وليد مصاب بمرض عضال يندر الشفاء منه… عرفت الأم… لم تكن تدري ماذا تفعل… كانت تدعو لوليد بالشفاء وتخفي دموعها عنه حتى لا تزيد عليه همومه… لكن المقدر لا بد من أن ينفذ.. رحل وليد بعد أن أوصى أمه أن تهتم بأطفاله الذين تركتهم أمهم بعد أن علمت بمرض زوجها وصعوبة شفائه…

رحل وليد… لم تعد أمه تعيش بمفردها… معها الآن أبناء وليد الذي ترك معها أمانة غالية… طفلًا وطفلة… أحبّتهم كثيرًا… لكن لم يُنْسها حبّها لهم مصيبتها في ابنها… لكنها صبرت ودعت للراحل أن يغفر اللّه له وأن يسكنه فسيح جنانه…

الصبر دواء… عدم الاعتراض على اللّه عند نزول المصائب نعمة… شكر اللّه على كل أحوالنا طريق للحصول على الثواب من اللّه عزّ وجلّ… البعض تنزل عليه المصائب كالمطر ويبقى شاكرًا وحامدًا للّه عزّ وجلّ… والبعض تدك المصيبة أركانه وتصيب لسانه وقلبه فيقول كلامًا يعترض فيه على اللّه فيكون قد خسر الدنيا… وخسر نعيم الجنة إن لم يتب من كفره بالعودة إلى الإسلام…

سعيد الابن الثاني لأم محمّد سافر إلى دولة أوروبية ولم يزر أمه إلّا مرّات قليلة… كان الهاتف وسيلتهم للتواصل التي لا تغني الأحباب عن اللقاء… مرض سعيد ولم يخبروا أمه بحالته… وازداد وضعه سوءًا حتى توفّاه اللّه… أخفوا الخبر عن أمه… خافوا عليها من وقع الخبر… الابن الثاني يرحل عن الدنيا غريبًا دون أن تستطيع أمه وداعه… لكن لما انقطعت اتصالاته الهاتفية… أخبروها أنه قد رحل…. سبقها إلى العالم الآخر… كانت صدمة كبيرة… لكن كانت أم محمّد على نفس طريق الصبر الذي سارته قبل سنوات حين توفي ولدها الأول…

ومرّت سنون… وكان الموعد مع ابنها الكبير محمّد… جاء إلى أمه يزورها… هكذا أظهر لأمه… لكن حقيقة الأمر أنه جاء للعلاج من أمراض أصابت عدة نواح في جسمه… قضى مع أمّه أيامًا حلوة… فرحت بوجوده معها… وهو رغم آلامه… ما كان يظهر لها إلا الابتسامة والفرح…. لكن المقدّر لا بدّ من أن يحصل…

وفي صبيحة أحد الأيّام… كان مستلقيًا على فراشه… أمه كانت تحضّر له كوب الشاي… شكرها… نظر في وجهها… ورحل… لم تعرف أم محمّد كيف تتصرّف… نادت على حفيدها… أنظر عمك مما يشكو… لكن لا علاج لما أصاب محمّد… سار على الدرب الذي سيسلكه الجميع… يسبق أحدهم الآخر…

جلست أم محمّد على كرسيها تبكي بصمت… أمسكت السبحة وأخذت تذكر اللّه عزّ وجلّ… مرّت أمامها صور أبنائها الثلاثة… تركوها لتحصيل لقمة العيش وتأمين قوتهم وقوت عيالهم… لكن تلك الأيام كان عندها أمل أن تراهم… أما الآن فهو الوداع الأخير… دعت لأبنائها بالرحمة والمغفرة وأن يجمعها اللّه بهم في الجنّة…

تذكّرت أم محمّد مصاب الرسول صلى الله عليه وسلّم في أبنائه وبناته… تذكّرت كيف دمعت عيناه حين وفاة ابنه إبراهيم… لكنه علّم المسلمين الصبر بفعله وقوله… «إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يَرضَى ربُّنا…» رواه البخاري.

لا نقول إلا ما يرضى ربنا… في حالة الفرح وفي حالة الحزن… مهما كان ما خسرناه.. نحمد اللّه على كل حال… ومهما كانت فرحتنا كبيرة… نشكر اللّه على نعمه ونسأله أن لا نفتن مهما كانت ظروفنا من فرح أو ترح.

من شعر بقلبه أن العافية قريبة… وأن الفرج يأتي بعد الألم… وأن الدنيا مهما حملت من هموم… لا بدّ لها من نهاية… وسيحصل إن صبر وشكر… إن شاء اللّه… في الدنيا وفي الآخرة على سعادة تنسيه كل آلام الدنيا… إن فكر بهذا سهُل عليه الصبر… وهانت عليه همومه… عندها لن ينطق لسانه إلا بقول: الحمد للّه…█