من نصائح المحدث الشيخ عبد الله الهرري

جميل الصمت وحلو الكلام

ما أصعب الصمت حين تكون هناك حاجة ماسة للكلام… يكون أحدهم بحاجة لكلمة يداوي بها جراحه وتجد الآخر لا يلتفت إليه… كلمة هي… لكنها أحيانًا أقوى من الرصاص… وأحيانًا ألطف من النسمة العابرة…

أبو خالد رجل في الخمسين من عمره… يعمل في إحدى الوزارات المهمة… عمله متعب وأحيانًا يحتاج لجلب بعض المتابعات إلى بيته لإتمام عمله… جاء مرة إلى بيته… وقبل أن يدخل إليه سمع صوت شجار قوي من داخل منزله… كاد أن يقع أرضًا من شدة الألم… يحزنه كثيرًا أن يرى أبناءه يتشاجرون أو أن يضرب بعضهم الآخر… ولما وصل إلى غرفة الشباب وجد ابنه الكبير يضرب أخاه الأصغر… والثاني كان يحاول أن يدفع اللكمات عن جسده دون فائدة. أحزنه ما رأى… احتار ماذا يفعل… الكبير يتوقع منه دعمه في تربية أخيه… والصغير ينظر بعينين باكيتين إلى والده يسأله دفع الضرب عنه… أمسك أبو خالد بالصغير وأبعده عن أخيه… ثم انصرف دون أن يتكلم… الأمر كان بحاجة إلى علاج… الصمت هنا زاد ألم الكل… لأن الكل كان يريد حلًا… ومن أجدر بوضع الحلول من الأب بحكمته وحسن تصرفه؟!!…

الصمت أحيانًا يزيد من الأزمات… وأحيانًا يكون مطلوبًا بل ويكون ممدوحًا… نعم نسمع أن سلامة الإنسان في حفظ اللسان… وأن من صمت نجا… روى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من كان يؤمنُ بالله واليوم الآخِر فلْيَقُل خيرًا أو لِيَصْمُتْ“… لكن لا بدّ من الكلام أحيانًا بعض الناس يغرق في المعاصي… ثم يذهب إلى أصحابه ليخبرهم أنه فعل كذا وكذا… يفتخر بما فعل ويذكر فلانًا وفلانة بالسوء… ويسخر من الناس الذين ينبهونه ويحذّرونه من نتيجة ما فعل… من ابتلي بمعصية فليستتر وليتب إلى الله ويندم على ما فعل…

إن رأيت زلة من فلان فاصمت عن التحدث بذلك بين الناس… اكتم ما رأيت أو علمت وانصحه دون أن تفضحه. هنا السكوت أفضل من ذكره بين الناس بكلمات قد تسبّب استمراره في المعصية وعدم الإقلاع عنها… أما إن كان هناك من يدعو الناس إلى باطل فلا نسكت عنه… ننصحه بالحكمة والموعظة الحسنة. فإن ترك ما هو فيه فهذا هو المطلوب، وإلا فإننا نذكره بما فيه حتى يحذره الناس…

قال أحد الصالحين: إذا أراد أحدكم الكلام فعليه أن يفكر في كلامه… فإن ظهرت المصلحة تكلم.. وإن شك لم يتكلم حتى تظهر المصلحة… على الواحد منا ألا يتكلم حتى يفكر في آثار كلماته… هل ستؤدي إلى النتيجة المطلوبة، أو أنها ستجرح وتزيد من الأذى والألم؟ العاقل من عقل لسانه… العاقل من يضع حدودًا لكلماته ولا يطلق العنان للسانه… بكثرة الصمت تكون الهيبة… بعض الناس يكثر الكلام بالمزاح والنكت… وأحيانًا لا يخلو كلامه من الكذب والغيبة والنميمة… مثل هذا الإنسان يتجنبه الناس لأنهم يعلمون أن من نمَّ لهم سيَنِمُّ عليهم… أكثر الناس لا يحبون الثرثار كثير الكلام… يجدون فيه مريضًا بحاجة لعلاج فيبتعدون عنه…

قال أحدهم: اكتم حسناتك كما تكتم سيئاتك… الذي يعمل الفرائض يعملها لله وليس لكي يمدحه الناس. من يبذل المال للفقراء والمساكين ليكتم الأمر ولا يكن شأنه أن يذكر في المجالس أنا دفعت كذا لفلان وتصدقت بكذا لبناء مسجد… وأنقذت فلانًا من نكسة مالية كان واقعًا بها… ليكن العمل الصالح ابتغاء وجه الله… ليس للحصول على مدح الناس، أو حتى يقال فلان تصدق وفلان أنفق… ليكن العمل خالصًا لله عز وجل… خالصًا من الرياء…

أبو فؤاد صاحب دكان بسيط في أحد الشوارع الشعبية… يبيع في دكانه بعض الأشياء البسيطة ولكن الضرورية كالخبز والرز والسكر وغيره… يتردد إليه الجيران وبعضهم يشتري منه بالدين… البعض يسدد ديونه، والبعض منهم تمر الشهور وهو لا يرد شيئًا من الدين لصاحب الدكان. ولم يكن أبو فؤاد يطلب سداد دينه من أحد، يقول في نفسه لعل فلانًا لم تتيسر أموره وهو غير قادر على الدفع… وكان يكتم عنهم ولا يصرخ في الشوارع كما يفعل البعض مطالبًا بسداد ديونه. منذ فترة توفي أبو فؤاد، ووجدوه مديونًا للتجار بينما ماله موزع بين الناس.

على الواحد منا أن يتعلّم متى يتكلم ومتى يصمت… علينا أن نتكلم حيث يلزم الكلام وأن نصمت حين يكون الصمت هو الأنفع وهو الأفضل للخلاص من مشكلة أكبر وأخطر…

أما إن أسرّ إليك أحدهم بكلام وطلب منك حفظه، فتذكر أن صدور الأحرار قبور الأسرار… كم من سر كان في إشاعته الأذى لكثير من الناس… وفي كتمانه الأمان والسلام…█